ألم تسمع عبد الحليم فى أغنيته الشهيرة يقول:
"قد ما تقدر عيش .. دى اللحظه إللى تعدى .. بتروح ماتجيش؟!"
لماذا لم تصغى إليه جيداً؟! لماذا لم تأخذ بنصيحته الصادقة؟!
ظننت أن بإمكانك أن تضغط "pause" ثم تواصل العيش وقتما و أينما تشاء بالكيفية التى تحلو لك .. توهمت أن عمرك و مشاعرك و الناس و أوراق الشجر الخضراء المتناثرة على دربك سيحتفظون جميعهم بحالتهم و يواصلون معك الرحلة متى تقرر أنت ذلك!
يا لك مِن تَعس!
يا صديقى إن العمر ينساب مِن بين أصابعك كالماء ..
و مهما أحكمت القبض عليه، فإنه كقبضك للريح ..
قليلون مَن يفطنون لذلك فيستمتعوا بكل لحظة فى حياتهم القصيرة بالضروره مهما طال مداها؛ و كثيرون مَن يتذاكون على قوانين الطبيعة أو يجهلونها، فيفيقون متأخراً مِثلك!
و لا فائدة مِن لومك و تأنيبك، فقد أضعت فرصتك الوحيدة بالفعل ..
و كما يقولون: العتاب على أمر قد إنقضى نقصان للعقل!
إننى لا أكتب ذلك لك، بل لمَن مازالت فرصته مِلك يمينه ..
فأما أنت أيها الواقف على أعتاب الإختيار .. إختر سعادتك بأن تحيا كل لحظة سانحة لك فيها على أفضل ما فى الإمكان؛ لا تؤجل إستمتاعك بها و ترهنها بدونها مِن الأحلام، بل إحرص على إقتناصها مِن براثن الزمن إقتناصاً، و دججها بكل ما يمكنها أن تحمل مِن مشاعر، لأن يوماً ما لن يواسيك سوى وميض ذكراها الساحر الطيب!
و أعلم أنك الآن فى "الدنيا" .. أسوأ فندق درجة ثالثة قد تقيم به على الإطلاق!
فالأمر فيها لا يستقيم أبداً على النحو المنشود، و كلما وجهت طاقتك و كيانك كله نحو حلم أو أمنية ما، فقدت فى سبيلك إليه ما لا يمكن تعويضه أبداً، و إلتهمك الندم عليه إلتهاماً طيلة حياتك. فكم مِن أناس إمتطوا جياد الغربة بحثاً عن المال الوفير، و عندما جمعوا منه ما يملأ أعينهم، عادوا ليكتشفوا أن اللعبة قد إنتهت و لا سبيل للعب شوط أو دور أخر، و صدمتهم تلك العبارة البغيضة على شاشة حياتهم: "Game Over"!!
كان لنا أستاذاً معاراً للخارج .. مَكث نحو خمسة و عشرين عاماً يعمل بإحدى الجامعات العربية، ثم قرر بعد رحلة الكد الطويلة أن يعود لوطنه كى يبدأ بالإستمتاع بالحياة التى رسمها لنفسه و حلم بها منذ كان شاباً، فعاد فارداً ذراعيه لأحلامه، متوهماً أنها ستلاقيه بحرارة الشوق ذاتها، فقد بذل فى سبيلها أكثر مما بذل الشاطر حسن للفوز بست الحسن.
أتدرى ماذا حدث؟!
لم يكمل الرجل عاماً واحداً فى تلك الجنة الموعودة و المُستحَقة!
فقد إكتشف انه قد عاد بكليتين شِبه منتهيتين تماماً و لم تكن حالته تسمح بزراعة أخريين، فقضى الأمر!
لقد أضاع الرجل خمسة و عشرين عاماً لم يحياها، مِن أجل عام يتيم ضاع نصفه على فراش المرض!
هل تتخيل جرعة الميلودراما فى ذلك؟!
ثم أن الدنيا و ظروفها ليست وحدها مَن تمزق الأحلام و تسلب المرء سنوات عمره بقلب بارد ..
الناس أيضاً يقومون بذلك على النحو الأمثل!
إنهم لا يبقون على حالهم، و لا تحتفظ مشاعرهم تجاهك بدرجة حراراتها و نقاءها أبداً على مر السنين .. و قد يفاجئك بعضهم بالرحيل عن دنياك دون سابق إنذار، سواء بالموت أو بـ "دقة نقص" تفقدك القدرة على الإستيعاب و النطق معاً! و فى كلا الحالتين، تتمنى لو بمقدورك إستعادة فجر العمر مِن جديد لتنعم بكل لحظة مهدرة فيه – سواء لتقضيها معهم إن كانوا صادقين، و إختطفهم منك الموت؛ أو لتمنعهم إياها بصحبتك، لو كانوا زائفين و عشت لأجلهم ما كان ينبغى أن تحياه لنفسك أو لغيرهم.
حتى نفسك هذه ذاتها قد تخلو بك!
فلست بمنأى عن السقم مثلاً، و بإمكان مجرد (دور برد) شديد أن يطرحك أرضاً لعدة أيام، فما بالك بما قد يفعله ما هو أعظم مِنه بباقة الأحلام؟!
ليس هذا لإحباطك أو (تقليب المواجع) عليك، بل لتحذيرك و نصحك لوجه الله ..
لا تبعثر عمرك الثمين و ترهنه بما ليس بيدك ..
فأنت لا تدرى ماذا تكسب غدا ..
و إنما الأيام مثل السحاب.