التاريخ : الأربعاء 01 أغسطس 2012 10:50:36 صباحاً
أراد جون رسكن أحد أشهر المدافعين عن حقوق العمال أن يقدم خدمة لبني جلدته من الإنجليز الذين يترددون على أكسفورد يوميا بحثا عن لقمة شريفة بين هدير مصانعها، فأقنع الطلاب الذين يدرسون النقد الأدبي على يديه بالتخلى عن دفاترهم قليلا والنزول إلى ميدان الحياة لتقديم يد الفضل إلى إخوتهم في الشقاء. وفي صبيحة يوم عملي، حمل الطلاب عافيتهم وانطلقوا إلى إحدى الحقول المجاورة وشرعوا في بناء ممر يختصر المسافة بين مصدر الشقاء ومستقر الراحة ليوفروا على الأقدام اليابسة بعض الأنفاس.
كانت السواعد البيضاء تشق غلالة الليل بمنشار التحدي لتصنع صبحا يليق بالبسطاء الذين تخلوا عن أصدافهم النرجسية وتفرغوا لبناء وطن حر. كان الطلاب يبسطون أرديتهم البيضاء فوق أجساد البسطاء العارية لينسجوا ملحمة وفاء لوطن يتنافسون ظله. هكذا، حفر الأكسفورديون الآبار ورفعوا ما انخفض من وهاد وسوّوا بتلال الحقول الأرض حتى بدأت معالم الطريق تلوح في أفق الواقفين على تلال الأمل. عندها أحس البسطاء أن جسرا يكاد ينبني بين عقل الإنسان ويديه، وعندها رفع القادمون إلى هدير الآلات رؤوسهم نحو السماء وعيونهم تذرف بللورات الدمع حمدا على نعمة إنسانية أتت متأخرة لتحملهم نحو نبض الوطن.
لكن الأيادي الناعمة لم تلبث أن كلت، وبدأت المعاول تهوي إلى الأرض دون أن تخدش تربتها، وسقطت المعاول وارتمت الأجساد البضة فوق سبخ الأرض لتمرغ شرف التحدي في وحل الواقع. عندها، ألقى البروفيسور الذي لم يجرب أحلامه قط نظرة بائسة على تخوم الهزيمة وكر راجعا إلى منفاه الوجودي بين الكتب وتبعه طلابه بعد أن ترجموا الهزيمة إلى كافة لكنات الأرض ليعلنوا انسحابا مخزيا من أرض الهزيمة وردة منكرة إلى فضاء الكلمات. ولم ينبس أحد ببنت أمل بعدها عن إمكانية التوفيق بين النوايا الحسنة وصخور الواقع.
وعاد المصدومون في أنصارهم يجرون أذيال الوحدة إلى هدير الآلات وصخب المدينة التي نسيت وسط مشروعها الطوباوي أحزان الفقراء وآلام العمال. عادوا في صمتهم الروتيني المعتاد لينشروا أقفيتهم المقددة تحت لهيب الشمس الحارقة يمضغون الصبر دون أن يستظلوا بأي أمل في تغيير واقعهم الرمادي. ومضت الحياة في طريقها الدائري حول خاصرة المدينة لا تلوي على شيء لتحمل جرحى الأمل نحو حتفهم دون أن تلقي نظرة عظة على معالم طريق لم ينجح الغبار الكوني في فض خيبته البكر.
لم تفلح نوايا رسكن الطيبة في مد جسور الواقع بين النظرية والتطبيق إذن، ولم تنتشل لحيته الكثة ويده الممدودة نحو الأفق آهات العمال وهم يزحفون نحو صخب المدينة في أكفانهم الجلدية المعروقة. سقط حلم رسكن مع آخر معول وآخر رفش وأول شعاع حقيقة يهطل على طريقه المستقيم لأنه لم يحسن قياس المسافات بين المقاعد الخشبية وآمال العمال المعلقة بين سندان الرغبة وصخور المستحيل.
ليت أعظم ناقد أدبي في العصر الفكتوري وفر جلود طلابه الناعمة لمصافحة الأوراق، وعلم السائرين نحو حتفهم في قيظ العالم اللاهي إمكانية البحث في فضائهم العدمي عن طريق آخر يقود إلى الهدف دون التفاف حول ساقية الألم. ليته رسم بما أوتي من وعي ومساعدين ملامح شعاعه المستقيم الذي لا يحتاج إلى عمال كاتبين بقدر ما يحتاج إلى عمال مهرة يجيدون الإمساك بالفأس والمعول. ليته أدرك أن تبديل الأدوار بين حاملي القلم وحاملي المعول لن يغني الطرق عن دورانها المعتاد حول طريقه المستقيم.
لا سبيل لإعادة حفر الطريق فوق جسد الوطن إذن إلا بتكليف واضح لأصحاب الفكر المستقيم أن يخرجوا فكرهم من تابوت النظرية إلى واقع الحالمين، وتوعية البسطاء الذين يحملون نعوشهم فوق أكتافهم كل يوم نحو قلب المدينة القاسي أنهم قادرون على حرق أعواد توابيتهم في أتون الإرادة، وأنهم قادرون بعرقهم على الخروج من لجة الألم. ليته تعلم أن يوزع المعاول على أصحابها والكتب على دارسيها حتى يستقيم الأمل ويخرج الوطن من دائرة التيه التي سقط فيها ذات سكرة إلى قفزة نوعية فوق كوكب الأقوياء.
|