لك أن تعرف بدايةً أن هدفى هنا ليس توجيهك نحو إجابة معينه أنحاز إليها ..
بل مجرد محاوله للتفكير معك ..
و تذكر أننى قد أصيب فى تفاؤلاتى و مخاوفى أو أخطىء، فليكن القرار الحاسم و الأخير قرارك أنت المُوقَع أدناه مِن صوت ضميرك.
إنتهيت لتوى مِن قراءه متأنيه لدستور 2013. و كنت قد سُئِلت كثيراً عن رأيى فيه. حسناً، جملة القول، أنه دستور جيد، به مواد تجعلك تصفق لا إرادياً و تدعو لمَن صاغها على هذا النحو و أنت تطالعها، و به مواد تجعلك تقلب شفتيك متمنياً لو أن لك الحق فى تعديلها بقلمك كى تتسق و مبادىء و بديهيات واضحه لا تقبل الشك.
لكن الدستور ليس قرآناً على أى حال ..
دعنا نناقشه مناقشةً موضوعية إذن ..
و إسمح لإسلوبى بحكم المِهنه أن يطرح ذلك فى صورة مقارنه بين المميزات و العيوب.
يقتضى الإنصاف أن يقر المرء بأن ثمة جهد ملموس و نوايا طيبه و أقلام صادقه قد إشتركت فى صياغة هذا الدستور. و ستشعر بإرتياح حقيقى عندما تجد تلك المواد الخبيثه السخيفه المطاطه فى دستور 2012 قد ذهبت إلى غير رجعه:
· فالحديث فى مواد الباب الأول عن مفهوم "الدوله" فحسب، و لا إقحام للفظ "المجتمع" الذى طالما فتح الباب لسلطات أهليه موازيه تدس أنفها فيما ليس مِن شأنها مِن أمور الناس.
· إختفت كذلك تلك الماده التى كانت تنص على ربط الأجر بالإنتاج متغاضية عن الظروف و المقومات.
· و لم تعد النسب المقرره مِن الموازنه لبنود التعليم البحث العلمى و الصحه متروكه لتقدير و "إحسان" أولى الأمر، بل تم وضع حدود دنيا لها و إلزام الدوله برفعها تدريجياً لتتساوى مع المعدلات العالميه.
· كما ذهبت عبارة "التأمين الصحى يكون بالمجان لغير القادرين" إلى الجحيم، و حل محلها "لكل مواطن الحق فى الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة".
· و أصبح تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن إتمام التعليم الأساسى محظور حظراً مُطلقاً، لا كما كان مِن قبل "يحظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن الإلزام التعليمى فى أعمال لا تناسب عمره"!!
· إختفت الماده (96) مِن دستور 2012 و التى نصت على الأغلبية "الخاصة" لإعتماد صحة تصويت أعضاء مجلس النواب على بعض الموضوعات.
و لا تقف المزايا فى الدستور الجديد عند تعديلات و حذف تلك "الغُمم" فحسب، بل تأسرك بعض الإضافات الجديده التى تنتصر لقيم علميه و إنسانيه و ثوريه و منها:
· ما جاء فى الماده (24) مِن جعل اللغة العربية و التربية الدينية و التاريخ الوطنى مواد أساسية فى التعليم قبل الجامعى سواء كان حكومياً أم خاصاً، الأمر الذى يضمن حد أدنى لترميم أخلاق و وطنية الشخصيه المصريه التى أصابها ما أصابها على مدار العقود السابقه بفعل فاعل.
· الماده (25) تلزم الدوله بوضع خطه شامله للقضاء على الأميه بنوعيها الهجائيه و الرقميه خلال زمن محدد و هو أمر جيد للغايه ستكون له إنعكاسات إيجابية على كافة الأصعده.
· الإلتزام بحدين أدنى و أقصى للأجور فى الماده (27).
· النص على حق العاملين فى الحصول على نصيب فى إدارة المشروعات و أرباحها، كما جاء فى الماده (42).
· فى الفصل الثالث مِن الباب الثانى و الخاص بالمقومات الثقافيه، مادة محترمه تحض على الترجمه مِن العربيه و إليها هى الماده (48).
· جاء الباب الثالث الذى ينظم الحقوق و الحريات و الواجبات العامه بأكمله مثلجاً للصدور، منتصراً للكثير مِن القيم و المبادىء الرائعه التى طالما حلم بها الجميع و بحت أصواتهم مِن أجلها. و مِن ضمنها على سبيل المثال لا الحصر أن التعذيب بجميع صوره و أشكاله جريمه لا تسقط بالتقادم، و أن التمييز و الحض على الكراهيه جريمة يعاقب عليها القانون، و أن الدوله ملتزمة بحماية حق المواطنين فى إستخدام وسائل الإتصال العامه و لا يجوز تعطيلها أو قطعها أو حرمان المواطنين منها، و أن لكل مواطن حرية التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابه أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير و النشر، و ضمان حقوق المسنين فى ماده منفصله.
· مِن اللافت للنظر أن فئة ذوى الإعاقه تلقى حفاوة ملحوظه فى معظم مواد الدستور، و حقوقهم بموجبه مكفوله و مصونه بشكل رائع على قدم المساواة مع العاديين.
· فيما يتعلق بالفصل بين سلطات رئيس الجمهورية و مجلس النواب، تعطى الماده (123) اليد العليا لمجلس النواب فى إصدار القوانين و إقرارها.
· تقتضى الماده (124) عدم جواز تحمل المواطنين أى أعباء جديده عند إقرار قانون الموازنه العامه للدوله.
· لا يجوز لرئيس الجمهوريه حل مجلس النواب إلا بعد إستفتاء الشعب و لوجود ضروره مُسببه لذلك وفقاً للماده (137).
· تعطى الماده (138) الحق لأى مواطن بأن يقدم شكاوى أو مقترحات لمجلس الشعب، و يتكفل المجلس ببحثها، و يطلب رد الوزراء المختصين عليها إن لزم الأمر و إحاطة المواطن بالنتيجة.
· الماده (159) تنظم آليات توجيه تهمة ما سواء جنائيه أو سياسيه لرئيس الجمهوريه، و عزله مِن منصبه و محاكمته أمام المحكمة الدستورية إن ثبتت إدانته. و الأهم مِن ذلك، أن الحكم الصادر ضده نهائى و غير قابل للطعن.
· يمكن لمجلس النواب بأغلبيته إقتراح سحب الثقة مِن رئيس الجمهورية بناءً على أسباب وجيهه، ويتم إستفتاء الشعب على ذلك و له القرار آنذاك كما جاء فى نص الماده (161).
· الماده (204) التى ملأ البعض الدنيا بشأنها صياحاً و نواحاً، و التى تجيز محاكمة المدنيين عسكرياً فى بعض الحالات الإستثنائية المحددة، هى فى رأيى المتواضع ضروره لا تزعج مَن كان سوى الفعل، سلمى التعبير، حيث تنص حرفياً فيما يتعلق بتلك التفصيله على أنه: "لا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكرى، إلا فى الجرائم التى تمثل إعتداءً مباشراً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها، او المناطق العسكريه أو الحدوديه المقرره كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامه أو المصانع الحربيه أو الجرائم المتعلقه بالتجنيد أو الجرائم التى تمثل إعتداءً مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم" .. فمَن يختلف على ذلك؟!
· تنص الماده (223) على أن إهانة العلم المصرى جريمة يعاقب عليها القانون، و خيراً فعل مَن صاغ الدستور بتضمين تلك الماده بعدما بالغ بعض السفهاء فى إهانة العلم و حرقه ظناً منهم أن فى ذلك بطولة ما، بينما أن كل ما حققوه مِن إنجاز فى حقيقة الأمر أنهم فاقوا الصهاينة خِسه و اتوا بما لم يجرؤ الإسرائيليون على الإتيان به!
· تلزم الماده (236) الدوله بوضع و تنفيذ خطه للتنميه الإقتصاديه و العمرانيه الشامله للمناطق الحدوديه و المحرومه و منها الصعيد و سيناء و مطروح و النوبه على أن يتم ذلك فى مده لا تتجاوز عشر سنوات.
· إلزام مجلس النواب فى أول دور إنعقاد له بإصدار قانون للعداله الإنتقاليه فى الماده (241).
و رغم كل تلك المزايا، فالأمانة تحتم إبراز العيوب أيضاً على ندرتها. فالندرة هنا ليست مرادفاً لعدم الأهمية؛ حتى و إن إختلت مادة واحده، قد يكون فى ذلك ضرر كبير و لك كل الحق فى رفض الدستور بسببها! .. و ما لا يبعث على الراحة فى دستور 2013 أنه "شَفَ" بعض موبقات دستور 2012 شفاً و تعامى عن حذفها أو تعديلها و مِنها:
· إعطاء حقوق إستغلال لموارد الدوله الطبيعيه و مرافقها العامه بقانون لمده لا تتجاوز الثلاثين عاما، و كذا منح حق إستغلال المحاجر و المناجم الصغيره و الملاحات بقانون لمده لا تتجاوز خمسة عشر عاما ما هى إلا عمليات تجميل للماده (18) من دستور 2012 و التى جاءت فيها إجازة التصرف فى املاك الدولة بناءً على قانون إجازة صريحه و غير مشروطه! و تحديد ذلك بمده لا يفرق كثيراً، فخمسة عشر عاماً و ثلاثين عاماً كافيه تماماً لإستنزاف تلك الثروات لصالح محتكريها! تخيل مثلاً أنه بموجب تلك الماده قد يصبح مِن حق إسرائيل أن تستمتع بالغاز الطبيعى المصرى ثلاثين عاما إذا صدر قانون يجيز ذلك لاحقاً؟! ياللروعه!!
· إعطاء صلاحيه لرئيس الجمهورية لتعيين الموظفين المدنيين و العسكريين و إعفاءهم مِن مناصبهم بنص الماده (153) من الدستور الجديد تحمل ذات التناقض الذى جاءت به الماده (147) من الدستور القائم.
· خلا هذا الدستور أيضاً – كما خلا سابقه – مِن أى ذكر أو إلزام لتعيين نائب للرئيس.
· أحدى أسوأ سقطات دستور 2012 كانت تلك الماده التى حملت رقم (149)، و التى تعطى لرئيس الجمهوريه الحق فى العفو عن العقوبه أو تخفيفها! تلك الماده التى بموجبها عفى الرئيس السابق عن ثلاثين إرهابياً مازالوا يوسعون سينانا خرابا،ً و يسفكون دماء جنودنا حتى الآن! و لشديد الأسف، تضمن الدستور الجديد ذات النص فى مادة تحمل رقم (155). إذا كنا حقاً نقدس القانون و نحترم أحكام القضاه، فلمَ هذا الإنتهاك الصارخ له؟!
· مجلسى الآمن القومى و الدفاع الوطنى كلاهما له وظائف متقاربه إلى حد كبير، فلمَ الإصرار على تشكيلهما ككيانين منفصلين، فيترتب على ذلك إهدار ناعم للمال العام؟!
علاوة على ذلك، فقد تفرد الدستور المُقترح بعدة مناطق تثير القلق فى صياغة بعض مواده:
· مفهوم جودة التعليم الذى تتحدث عنه الماده (22) دون تحديد معالمه، لو كان المقصود به التهريج الحادث حالياً بالمدارس و الجامعات و القائم على (روتنة) الأنظمه الأوروبية المنقوله نصاً، فعلى الدنيا السلام! إن نظم "الجوده" المُطبقه حالياً مجرد إجراءات منقوله حرفياً دون مراعاة إختلاف البيئات و مدى توافر المقومات، فضلاً عن تفنن القائمين عليها فى صنع قيود و أعباء منها على أعضاء هيئة التدريس و المعلمين.
· مجلس الشعب ممثل للشعب، و لا معنى إطلاقاً لأن تأتى الماده (102) بمنح الحق لرئيس الجمهورية فى تعيين نسبه لا تتجاوز 5% مِن الأعضاء به!! هذا إما تكريس للوساطه و المحسوبيه أو زرع حلفاء للرئيس بداخل المجلس و لا تفسير ثالث لذلك!
· تحدث الدستور عن ضرورة عدم حمل الرئيس أو زوجته لجنسية أجنبية، و غض الطرف عن الأبناء تماماً رغم أنهم أقارب مِن الدرجه الأولى، و رغم أننا قد (لًسعنا مِن الشوربه) مِن قبل!
ثم أما بعد، فهذا تحليلى و تلك شهادتى .. و مرة أخرى أكررها على مسامعك: هذا الدستور ليس قرآناً، و له ما له و عليه ما عليه .. لك عندى نصيحة أخيره أيها القارىء: إقرأ .. ثم إقرأ .. ثم إقرأ .. ثم إعقلها و توكل مستفتياً قلبك و إن أفتوك.
ألهمك الله و إيانا سبيل الحق و الرشاد.