جلس العجوز بمقربة مِن الرجل، و لاحظ ما يبدو عليه مِن وجوم، فربت على كتفه سائلاً فى ود:
- "ماذا بك يا أستاذ (حسن)؟ ملامح وجهك تشى بهمومٍ ثقيلة، و آلامٍ تفوق طاقتك على الإحتمال .. أنا فى مقام والدك كما تقول دائماً .. إخبرنى".
نكس (حسن) رأسه فى حزن بالغ، و بدا و كأن صوته قد تعثر فى حلقه .. مرت دقيقة صامته على وضعه هذا قبل أن يهز رأسه آسفاً و يقول بصعوبة مبتلعاً غصته:
- " لا ادرى متى أصبحا هكذا؟! لا يمكن أن يكونا أخواى اللذين أكلا معى يوماً مِن طبق واحد، و نشئا معى فى ذات البيت ــــــــــ"
بتر حديثه الشارد و هو يرفع ذراعه اليمنى و ينظر فى دهشة إلى شرايينها و كأنه يراها لأول مره، ثم يتمتم:
- "إننى حتى لا أكاد أصدق أن دمائنا واحدة و أننا أشقاء مِن نفس الأم الصالحة و الأب طيب الذِكر!"
إبتسم العجوز متنهداً و قال له فى هدوء:
- "يظل أخاك أخاك حتى يتزوج، و يبقى إبنك إبنك حتى يتزوج أيضاً!"
رفع (حسن) رأسه فى آسى و نظر إلى العجوز متسائلاً بسخرية:
- "ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟"
حافظ العجوز على إبتسامته و إكتست نبرته بحكمة السنين و عمق التجربة:
- "يحدث أن الأفاعى تتسلل إلى العقول فتسمم أفكارها، و تزين لها الضلال، ثم تزحف صوب القلوب، فتطفىء نورها، و تنزع رحمتها و صلاحها، و ينتهى بها المطاف عند العيون، تعميها و تستبدلها بحجرين أصمين! فلا حياة لتلك الدماء التى فى العروق، و لا وجود لصِلة الرحم التى تدعيها الأحبار عبثاً على شهادات الميلاد!"
إبتسم (حسن) مُطلِقاً زفرة قصيرة ساخره مِن تشبيه العجوز قبل أن يتسائل فى ألم:
- "و لمَ كل هذا؟! هل يساوى أى مكسب كان خسارة شقيق؟!"
مط العجوز شفتيه مجيباً:
- "جشع .. رداءة معدن .. دناءة نفس .. بيئة مثالية يمارس فيها إبليس مهام وظيفته!".
تنهد (حسن) و أكمل تنهيدته بكلماتٍ متثاقلة:
- "لا أظن إبليس مسئولاً عن هذه، إنها آثامنا و ضعف نفوسنا، إنها عقولنا المريضة الصغيرة المُلقاة فى تجاويف آذاننا دون إكتراث، تتلقى سموم الأفاعى و تمررها إلى القلوب و الضمائر دون تنقية أو معالجة، فيحق علينا العذاب".
يشفق العجوز كثيراً على (حسن)، و يقرر أن يكتفى بهذا القدر مِن الجدال، فالكلام لا يضمد الجروح على ما يبدو، و إنما يزيدها سوءاً. تمر لحظات صمتٍ ثقيلة، قبل أن يربت العجوز على كتف (حسن) برفق و يغلق باب الحديث بقوله:
- "لا تبتئس إلى هذا الحد، كان هذا إبتلاء معظم الأنبياء، و لست بأكرم على الله منهم. أنظر إلى يوسف عليه السلام و ما فعل به إخوته".
هز (حسن) رأسه متفهماً، فإعتدل العجوز فى جلسته و نظر إليه نظرة واثقة مردفاً:
- "على قدر المِحن تكون المِنَح يا بنى؛ و الله يجزى عن الصبر و عن تحمل الظلم بكل سخاء".
أغمض (حسن) عينيه لوهلة و كأنه يبتلع الحزن و الألم، ثم خرجت مِنه كلمتان بكل الرضا:
- "الحمد لله".