مِن ملامح مأساة جيلنا و أجيال سبقته و أخرى تلته أن دراستنا لمقرر التاريخ فى الثانوية العامة كانت إختيارية! و نظراً لما إستقر فى نصائح المدرسين و الطلاب الأكبر، فقد كنا نعزف عن إختيار تلك المادة ثقيلة الظل، مُهدرة الدرجات! و قد يظن البعض أن لا مشكلة تُذكر حتى و الأمر كذلك، و أن مُجرد عام مِن الإبتعاد عن التاريخ لن يؤثر على شىء، لكن دلالة القرار وحدها تكفى.
إن معظم أجيال الوسط و الأجيال الحديثة لم تعاصر احداثاً هامة و مصيرية مِن عُمر الوطن، كحفر قناة السويس الأولى، و ثورة 1919، و ثورة 1952، و نصر أكتوبر، و غيرها؛ و تُعد دراسة التاريخ وسيلة تلك الأجيال لمعرفة ما حدث، فالتاريخ هو حبل سُري مِن الإنتماء يربط كل مصرى ببلده.
ربما لم تظهر الأعراض السيئة لإهمال التاريخ و ترك دراسته وفق الأمزجة و الأهواء الشخصية للدارسين إلا فى أيامنا هذه. أجيال مشوشة الأذهان، ضحلة المعرفة، سهلة الإنقياد للإشاعات و الأكاذيب، فريسة مثالية للتطرف الفكرى و التعصب المبنيان على الجهل بالأحداث و الحقائق فى المقام الأول.
أظن على مَن يفكر فى تطوير التعليم أن يمنح دراسة التاريخ ما تستحقه مِن إهتمام، و أن يعيد النظر فى محتوى مقرراته عبر سنوات التعليم الإلزامى، فالكثير مِن الأحداث الهامة و الشخصيات المؤثرة قد ظُلِمت فيه عمداً أو سهواً. و ينبغى كذلك أن تتسم صياغته بالحياد و الموضوعية و توثيق ما يصاغ فيه بأدلة مقنعة لعقول الدارسين، مع الوضع فى الإعتبار أن هذا الجيل يجيد إستخدام الإنترنت تماماً كما يجيد إستخدام أدوات تناول الطعام؛ و مِن ثم، فلديه وفرة هائلة فى المعلومات و عدد لا حصر له مِن مصادر المعرفة. من الآخر، ليس سهلاً إقناع دارسى هذا الزمان بوجهات نظر على كونها حقائق ما لم يتوافر دليل قاطع أو حجة منطقية على صدقها.
نقطة أخرى على قدر كبير مِن الأهمية ألا و هى مَن يصوغ مقررات التاريخ؟ و مَن يجيزها؟ و الأهم: وفق أى قواعد و شروط؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ضرورة لضمان أكبر قدر مِن حيادية الأمر و موضوعيته.
و مما ينبغى الإنتباه له أيضاً، أن إسلوب صياغة مقررات التاريخ جامداً، منفراً، و مناهجة قائمة على الحفظ و الإستظهار فقط، رغم أن طبيعة التاريخ تسمح بإستخدام مشوقات كثيرة سواء فى تنظيم مادته أو فى كيفية طرحه.
إن دراسة التاريخ ليست برفاهية، و إنما ضرورة وطنية و قومية بالغة الإلحاح فى زمننا هذا ربما أكثر مِن أى وقت مضى. فأعتقد أن قراءة التاريخ الموضوعى، المتزن، الخالى مِن المبالغات هى إحدى أهم الوسائل لإستعادة (المختطفين ذهنياً) مِن قِبل مختلف التيارات الفكرية المتطرفة. فما حدث أننا تخلينا عن إمدادهم بحقائق التاريخ، فإستغل آخرون الفرصة و حشوا أذهانهم بما حلا لهم مِن مغالطات و قاذورات جعلتهم يسلكون بما يتنافى و حدود المعقول، و بما يضر بهم و بمجتمعهم على حد سواء.