لا تقتصر اللغة على الأصوات المنطوقة فحسب.
وإنما الصمت، فى كثير من الأحيان، لغة ثرية؛ تحمل رسائل عِدة، عميقة، وذكية، وذات مغزى.
لكنها اللغة الأصعب فى الإستخدام والفهم على حد سواء.
فلا يلجأ للغة الصمت سوى عاجز، أويائس، أوبالغ الذكاء. وهى صنوف خاصة من البشر؛ لا تتوافر خصائصها وقدراتها لدى الناس كافة.
ولا يفك طلاسم وشفرات المعنى المقصود من وراء الصمت سوى العقلاء، الراشدين، الموضوعيين، ذوى البصائر السليمة. وهى أيضاً أنواع غير رائجة من بنى آدم؛ قد عز توافرها فى زماننا هذا.
فإذا تحدث أحدهم إليك بصمته، فثق أن لديه أكثر مما تقوله الكلمات.
وعليك أن تبذل جهداً كبيراً كى تتوصل لترجمة ما يعنيه ذاك الصمت.
يحتمل الصمت، بوجه عام، ثلة مِن المعانى. ويتوقف المعنى المقصود على سمات الصامت، وعلاقته بالمُخَاطَب، وطبيعة الظروف المحيطة بكليهما.
قد يكون الصمت تعبيراً عن اليأس، و(رمى طوبة) موضوع أوشخص ما. فما عاد الكلام بشأنه فى تقدير الصامت مجدياً.
كما يحتمل الصمت معنى الترفع عن الصغائر والبذاءات. فالصامت ينأى بنفسه عن الخوض فى مستنقعات لا تليق به؛ يرى أنه لوإرتادها، لقللت من شأنه، أوألحقت به الآذى.
وتُعَد الموافقة على أمر ما تفسيراً للصمت فى أحيان أخرى. فكما يقول موروثنا الشعبى: (السكوت علامة الرضا). ورغم أن هذا معنى يتيم ضمن معانى أخرى عديدة للصمت، إلا أن ثقافتنا قد جرت على إعتماده المعنى الأوحد له. فالصامت موافق على كل ما هومطروح بالضرورة. لوكان له رأى مخالف، لقاله وعبر عنه بوضوح. تفسير مريح يلائم العقول الكسولة، والأنفس العازفة عن بذل الجهد. ويلائم كذلك الشخصيات النرجسية، وحيدة الرأى.
ويترادف الصمت مع الغضب أحياناً. وفى حال كهذا، ينبغى على المُخاطَب توخى الحذر. لأن الغضب المتوارى خلف الصمت هوحمم مكبوتة تتأجج من فرط الغليان. وعاجلاً أم آجلا، سينفجر الصامت على نحولا يتوقعه هونفسه. وتصعب السيطرة على مجريات الأمور عقب هذا الإنفجار. وقد يدمر الغضب صاحبة، والموجه إليه، وأولئك الذين لا تربطهم بالأمر صلة من قريب أوبعيد! فى حالات كهذه، يلحق الذى بالجميع دون إستثناء.
وفى كل الحالات، يُستحسَن ألا يتم تجاهل الصمت دون تفسير. لأنه عرض نفسى سلبى بكل المقاييس متى كان موقفاً أوإتجاهاً فى أوقات يجدر فيها الكلام.
إن حدثك أحدهم بلغة الصمت، فإبحث فى الأسباب وعالجها.
فالوقاية خير، والعلاج المُبكِر فى مُستهل الداء أقوم.
فإن إستصعبت بذل الجهد فى التفسير وإصلاح الأسباب، فتذكر أن التعب الذى يسبق النجاح أرحم كثيراً من الندم الذى يلى الفشل.
وليس هناك على النفس أصعب من حسرة ترديد مأثورات فتاكة من قبيل:
(يا ريت إللى جرى ما كان)!!
و(ما كان م الأول)!!
و(يا ريتنى كنت ...)!!