فى مستهل عامها الأربع وأربعين كانت تبدو اصغر بثمانية سنوات على الأقل وفى الصباح الباكر ستة وفى كافة الأحوال كان تواجد أولادها معها مضحكا فهم قد لا يتناسبون مع ملابسها التى أصبحت أكثر عصرية وأنوثة عن عشر سنوات مضت. كان هذا مدعاة للفخر والبهجة بلا شك لها ولزوجها..
لكن..
كان بداخلها نداء عجيب لأن تعلق على صدرها يافطة بعمرها.."أبلغ أربعة وأربعين عاما" " انا أم أربعة وأربعين" ولو لم تكن تغطى شعرها لتباهت بشعرها الأبيض مع اليافطة ..حين صرحت برغبتها لمن حولها سخروا منها، قالو لها أن تحمد الله على ما تبدو عليه، رفعوا حواجبهم دهشة وقالوا بلاش فضايح، مافيش ست بتقول سنها الحقيقى ، إنت هبلة؟ هى دى اعراض سن اليأس؟ الصراحة القاتلة؟"
توقفت امام كل هذه العبارات وفكرت طويلا طويلا وهى تعد الطعام، وهى توصل الأولاد لدروسهم، وهى ترتب الفراش، وهى تنظر الى المرآة. كان عليها أن تحل لغز الرغبة المجنونة وصحت يوما وهى تدرك بما يشبه اليقين أن ما يدفعها للبوح هو التخلص من هذا العار..عار التقدم فى السن الذى يصبه المجتمع على رأس المرأة وكأنه خطأ ترتكبه أوكأن العمر يتقدم بها وحدها دوناً عن الآخرين، وكأن قيمتها الحقيقية تكمن فى قدرتها على الفتنة الجسدية الشابة حسب المعايير الموضوعة من قبل المجتمع، او على مدى كونها صغيرة، طازجة، ومستعدة لتقديم الخدمات المفترض ان تقوم بها من اسعاد الرجال وإنجاب العيال.
وتوقفت فى عقلها طويلا للرصد، رجعت سنوات كثيرة للوراء فوجدت كيف هو جسد المراة دائماً معضلة، كيف هو صليب يحملنه على ظهورهن طوال العمر :" مافيش لعب مع طلال ومصطفى تانى وإلا حأكسر لك دماغك" " انت لابسة ضيق ليه كده؟" " ماتقعديش مرحرحة رجليك كده. ضمى رجليك على بعضهم" " لما تسافرى بالقطر تلبسى بنطلون..البنطلون ضيق ليه كده؟ إنت حاطة ماكياج؟ ولما القذر ده إتحرش بيك فى القطر عملتيه له إيه؟ إزاى سبتيه يعمل كده؟ لسان بس ع الفاضى!"
تذكرت حمل صديقاتها الكتب وهن يحتضنها على الصدر، تذكرت مشيتهن محنيات وعيونهن فى الأرض إتقاءً للنظرات النارية أو الكلام الجارح، كلها أفعال جسدية عفوية لحماية الجسد، لإخفاء العار.
تذكرت كيف رحل عريس صالونات دون كلام حين جلست أمامه ووضعت ساق على ساق.
تذكرت لماذا يتم تمييزها وتفتيشها فى الحرمين الشريفين كل مرة تدخل او تخرج، شئ ما فى مشيتها معتدلة، واثقة، مفرودة يستفز الناس من حولها.
وتذكرت حين إلتقطت حجراً من على الرصيف وضربت به من تحرش بها ولم تنطق بحرف عن هذا لأحد.
وتذكرت العذاب الشهرى.. التوتر والثقل الغير مفهومين قبل الموعد ..الآلام الغير محتملة حين يحين الوقت..موجة تسونامى التى تطمثها هى وقريناتها كل شهر وتتركها وقد جٌرفت أرضها وأنهك زرعها! والقلق من أن يعرف أحدا ممن حولها والرعب من فضيحة البقع الحمراء على الملابس والسخرية من الدورة الشهرية التى كانت تسمع الشباب والرجال بأذنها يسخرون به بعضا لبعض " مالك يا له؟ انت عندك الدورة؟" ثم كل هذا مضروباً فى عشرة حين يحدث الحمل لاحقاً " قاعد جنب امك ليه يا ...حتاخد الرضعة؟ " ثم كل هذا مضروباً فى عشرين حين تبدأ الدائرة فى منحنى آخر عند الكبر." القواعد من النساء ياعم! دى قد امك ياض!" وكأن كل ظواهر المرأة البيولوجية محل إستهزاء وسخرية.
راجعت تاريخها المهنى..راجعت التحرشات...التعليقات التى تهدف دائماً لإبعادها كإمرأة عن مركز الأحداث..راجعت المقاتلات اللاتى قاتلن لإثبات المساواة والكفاءة و لتثبيت أقدامهن فى مجالات سيطر عليها الرجال، رفعت لهن القبعة وشعرت بشفقة غريبة عليهن فهن يلعبن اللعبة بقواعد الرجال أيضاً وقليلات هن من فلتن من السباق العنيف ونجون دون أن يسخرون منها أو يشبهونها بالرجال أو تفقد حياتها الإجتماعية والإنسانية كأنثى فى مقابل ما حققته.
راجعت التعب..التعب الذى تبذله لفعل كل شئ، هو ضعف التعب الذى يتعبه الرجل لفعل نفس الشئ، وهو نصف التعب اللذى تتعبه المرأة الفقيرة لفعل نفس الشئ!
داهمها الغضب من الصمت! صمت تٌدفع له المرأة دفعاً طول الوقت، حتى وهى تتكلم عن كل شئ فهى تصمت، يتركونها تتكلم عن الموضة والطبخ والعيال والبيوت، يتركونها تتكلم عن الأسعار والدروس والواجبات..لكنها لاتتكلم، ولايعلمون انها لاتتكلم ولو تكلمت فهى مخطئة ترى الأمور بمقياس معوج، تماما مثل الضلع الذى خٌلقت منه، لاترى الصورة بشكل طبيعى بسبب حرب الهرمونات التى تشتعل فى جسدها، وكلما إرتفعت مكانتها الإجتماعية ومكانة أسرتها، زادت مساحة صمتها فمعايير المكانة الإجتماعية مثل هرم ثقيل على صدورهن ومعه تزداد حيرتها فهى تظن انها تمتلك الرؤية والمفردات لكن لاشئ يجدى عند مرحلة تكوين الجمل والعبارات..تقف الأفكار على الشفاة ولا تخرج.
أثناء قيادة السيارة يوماً وهى فى إشارة طويلة راقبت فيها وجوه البشر من حولها داخل السيارات المجاورة وخارجها لها بإكتشافات أخرى، الكل مربوط فى ساقية القهر ذاتها رجال ونساء فى مجالات عدة وفى السياق الإنسانى الأساسى ..وكأن الناس فى الحياة مُرَتَبون على شكر هرمى، والقمة تضغط على ما تحتها، وما تحتها يضغط على ما تحته وتقع المراة والطفل قرب القاع ويقع الفقراء منهم فى قاع هذا القاع وكلما نقص شئ منهم إزداد بعداً فى القاع.
كان هذا شافيا لغليلها لفترة ما حتى رصدت انه حين يتم إهانة الرجل غالبا ما تٌستخدم صفات أنثوية وكأن ما يصف المرأة فى حد ذاته مهين. " ده..خ...!" " ده بيجيب هوا!" ده عدمان وشحات" ..ده ..ده..ده!" ليه يا.. أمك؟" ..على أمك" "...أمك!" وفى ثقافات أخرى أختك! وحتى باللغات الأجنبية! فعاد إحساسها بالإستياء. لم تكن أعياد مثل عيد المرأة تبهجهها. كنت ترى فيها تحديداً ليوم معين للتكريم. ولماذا التكريم أصلا؟ ولماذا لايكرم الرجل؟ ولماذا يظن المجتمع ان الإساءة التاريخية للمرأة سيتم محوها فى يوم؟ ولماذا لايتم الترتيب لنشر ثقافة مختلفة قائمة على المساواة بمعنى جديد..بمعنى لا ينفصل عن المساواة والكرامة للجميع ..الجميع..كرامة على طريقة عيش حرية عدالة إجتماعية..كرامة تجعل للجميع حق فى التعبير..فى التحقق..فى الحلم حتى لو كان المتاح منهم قليل فيٌوزع بالتساوى على الجميع ولا يستأثر به احد ثم يتشدق بحقوق المراة ويوم المرأة وتكريم المرأة..لن يتم تكريم المراة على أرض الواقع إن لم يكن المجتمع بأسره مكرماً، متعلماً واعياً بقيمته الإنسانية فرداً فرداُ، رجالاً ونساءً، شيوخاً واطفالاً، أغنياء وفقراء.
لكن النساء دائماً فى ظلم اكبر..
سحبت نفساً طويلاً ودفعت بحبتى مسكن ورشفة طويلة من القهوة الى جوفها وعادت تسأل ما علاقة كل هذا برغبتها فى أن تعلن انها أم اربعة وأربعين؟
ردت عليها نفسها " ألم تفهمى بعد؟ هى رغبة فى القيام بفعل صريح عكس الدائرة المغلقة التى يدور فيها الجميع. رغبة فى التخلص من العار رغبة فى التحرر من الأفكار المسبقة..نعم أنت فى الرابعة والأربعين..أنثى..لاتشعرين بالعجز إلا حين يصر من حولك على تذكيرك به، على وضع حدود الشباب وحدود الشيخوخة وتقسمك إنسانياً على اساس لا توافقين عليه، يحدث هذا حين يتم تسطيح معنى الوجود فى القدرة الجنسية، ويتم تسطيح القدرة الجنسية على فعل، يحدث هذا حين ينسى الناس ما رزقهم به الله فى كتبه السماوية من فهم عميق للإنسانية ويعيشون سجناء لقوانين عرفية غبية يخلقونها ويشقون انفسهم ومن حولهم بها. هذا الإعلان هو ثورة مهذبة على ظلم وقح..فعل يٌضم لأفعال كثيرة يقوم بها من صحت ضمائرهم ونفوسهم من البشر ورفضوا الواقع الظالم الذى يفسد بهجة الحياة ويخنق روعتها.
تحسست عضلاتها الموجوعة..تحسست قلبها الممتلئ..تذكرت كعكة عيد ميلادها العاشر، آخر كعكة حصلت عليها حين قررت الأسرة انها قد إنتهت من طور الطفولة وإنتقلت لطور آخر لم تعد فيه الكعكة مهمة بل البدء فى شراء محتويات جهازها! ابتسمت وهى تتذكر أنها كانت الكعكة الافضل على الاطلاق.
سابقا، كانت من شدة غضبها تتمنى أن توقف الناس كلها فى صف واحد وتقول " اولاد ال...لن أستثنى منكم احدا!" الآن تشعر أن الجميع يدوس الجميع وأن أهرام الظلم لا حد لها فى هذا الكون الواسع وانها فقط تود لو اوقفت الترس العظيم للحظة و قالت فى هدوء وصمت ما تود ان تقوله عن نفسها بأقل عدد ممكن من الكلمات. هدوء وصمت؟ عدد قليل من الكلمات؟ إذن فهى اليافطة!
علقت اليافطة " أنا أم أربعة وأربعين..و القلب لسه صغير..صغير"