عَرَضٌ غريب ينتابنى منذ عِدة أسابيع..
تأخذنى الخُطى إلى مدرستى الإبتدائية.. تُقبلُ عينى سورها الذى بقى على حاله يتحدى الزمن الردىء محتفظاً بعبق وسحر العصر الذهبى للحياه. وبجوار المدرسه تلك الشجره القديمه التى صار لونها رمادياً وشحبت كأنها مرسومة بقلم رصاص، تضلل على ذاك الكُشك الصغير القديم الذى كان شريكاً فى تفوقى فى الإبتدائيه منذ واحد وعشرين عاماً!
وأشعرُ بالقلب يتمزق حنيناً إلى لحظة واحده مِن تلك الأيام!
وعلى بُعد خطوات مِن المدرسه، بيت جدتى لأمى الذى يحافظ هو الأخر على أصالته التاريخيه وهويته العاطفيه منذ سنوات أبعد مِن سنوات المدرسه. يحملنى القلب العاشق لتُراب أيام الثمانينات إلى هناك.. أحتضن الشارع ومدخل العماره إحتضاناً كمَن يستقبل حبيب عائد مِن طول غياب.. حتى الدرج وأركانه يهمسان لى: "أتذكرين؟!"
أطرق باب جدتى فتفتح لى.. أعانقها.. فتذوب بين ضلوعها هموم كالأوطاد.. أغمض عينى وأتمنى لو يقف الزمان بى هنا..
لكنه حتماً لن يفعل.. سيضن كالمُعتاد!
وكعادتها، تذهب جدتى رغم توسلاتى بألا تفعل لتأتى لى بما آكله.. أخبرها أن ما أحتاجه ليس طعاماً جميلاً مِن طعامها المعهود.. لقد كبرت يا جدتى وما عادت مباهج الصغار تسعدنى.. أحتاج شيئاً آخر مفقوداً.
وأبتسم عندما أجدنى أكلم نفسى وقد إنصرفت جِدتى مُصرة على إحضار شيئاً آكله.. يبدو أنها قد نجحت فى قهر الزمن هى الأخرى فلم يقوى إلا على إصابة عظمها ببعض الوهن والعبث على وجهها ببعض التجاعيد.. لكنها كما هى منذ نيف وعشرين سنه ترانى حفيدتها الصغيره التى تأتيها عقب إنتهاء المدرسة وتسألها عن طعامها الشهى!
أتجول ببصرى.. ثم بخطوات واهنه فى البيت.. وألمح على الجدران صوراً خياليه مِن طفولتى.. وتقع عينى على أغراض تذكرنى بمواقف بعينها.. أضحك تارةً.. وأبكى أخرى.. وأبتلع مرارة إنقضاء هذا العصر الأصيل على أية حال.
وأستفيق على صوت جدتى تحمل صنفاً مِن أصنافها المُميزه التى أحبها:
"شوفتى بقى أنا جبت لك إيه بتحبيه؟!"
تفاجأها الدموع المكبوته على مشارف جفنى وتنزعج حين تلمحها وتضع ما بيدها لتسألنى عن السبب.. فأحتضنها بشده وأخبرها أننى جئتها أبحث عن ضالة أخرى:
الآمان!
يبدو لى أنها لا تستوعب قصدى فأمسك بيدها وأجلسها وأقص عليها قصة جيلنا الذى شاب قبل الأوان حين رأى الوطن الذى ظن أنه إستعاده مِن براثن خاطفيه يتمزق إرباً فى أيادٍ تتجاذبه بغل وشراسه فى كل إتجاه ويبدو مُستقبله شديد الغموض وفُرصه شديدة النُدره. حتى حاضره ليس على ما يرام.. لقد تبدد الآمان يا جدتى.
وهنا تلتقط مِنى الحديث مصدقةً على فقدان الآمان وتقص علىَ ما رأته بالأمس فى الشُرفه مِن مُشاجره بين طلاب ثانوى الذين ذبح أحدهم اخر مِن اجل فتاه أمام محل الدرس الخصوصى على مرآى ومسمع مِن الجميع فى وضح النهار وخشى الجميع مِن مجرد الإتصال بالشرطه! وجارتها التى قصت عليها كيف إقتحم اللصوص شقة إبنها وسرقوها نهاراً جهاراً أيضاً، وتستنكر حانقه:
"عمرنا يا بنتى ما شفنا كده أبداً ولا عيشنا أيام زى دى!"
ثم تربت على كتفى وتضيف بلهجة حانيه:
"بس إنتى متبقيش حساسه كده هتعيطى على حال البلد مش كفايه إللى إحنا فيه؟!"
تباغتنى إبتسامة متفهمه لمنطقها المُسالم وفطرتها الأنقى مِن فلسفة ربط المتغيرات والظواهر ببعضها وأرى انه لا داعى للتمادى فى الشرح والتوضيح بأن هذا "إللى إحنا فيه" ما هو إلا صدى وإنعكاس وإمتداد لما فيه مِصرنا، فأكتفى بتقبيل رأسها ومطالبتها بالدعاء لى ولمصر بأسرها..
وتصاحبنى دعواتها حتى اهبط عدة طوابق.. وأسير لعدة خطوات قبل أن ألتفت إليها لأجدها تطل على مِن الشباك ملوحة لى مُرسلةً قبلة بيدها عبر الأثير.
وأتركها ولا أدرى هل منحتنى تلك الزيارة بعض الآمان المنشود؟!
أم أنها قد زادت الجرح عمقاً فحسب؟!