إذا ذُكِرَت الزراعة، ذُكِرَ المصريون كرواد لها ..
لكن هذا قد صار – مع شديد الأسف والأسى – محض تاريخ قديم، مندثر، نفخر به عبثاً، واهمين أنفسنا بأننا مازلنا بلد زراعى مِن الطراز الأول! .. نكتة أليمة نضحك بها على أنفسنا، ويضحك منها العالم علينا!
لقد تخلى المصريون طوعاً وكرهاً عن تفوقهم الزراعى منذ عهود ..
تلك هى الحقيقة .. شئنا أم أبينا .. وأينما تولى وجهك، ستجد أمثلة صارخة تؤكدها و(توجع) قلبك على البلد أكثر وأكثر!
و لكننا لسنا الآن بصدد البكاء على اللبن المسكوب ..
ثمة حلول علمية لإستعادة دورنا الريادى زراعياً، أو حتى الوصول بمصر إلى حد الكفاية الزراعية على أقل تقدير.
فى هذا الشأن، يقدم الأستاذ الدكتور عبد السلام أحمد جمعة إستراتيجية لتنمية الحبوب فى مصر خلال مدى زمنى قوامه عشرون عاما. يركز الباحث هنا على محاصيل هامة كالقمح والذرة والأرز والذرة الرفيعة والشعير ويؤكد على ضرورة التكامل فى إنتاج هذه المحاصيل. وللإستراتيجية المُقترحة ثلاثة محاور رئيسية تتمثل فى التوسع الرأسى عن طريق رفع الكفاءة الإنتاجية للأرض والمياه التي تستثمر في الزراعة والتوسع الأفقي بإستصلاح أقصى مساحة من الأراضي البور والصحراوية في نطاق خطة الدولة لإستصلاح 3.4 مليون فدان حتى عام 2017 وتطوير التركيب المحصولي بما يحقق أقصى حد آمن من السلع الغذائية خاصة القمح وأقصى حد من المحاصيل التصديرية والتصنيعية. ويحدد الدكتور جمعة خطوات واضحة، مُرتبة ينبغى القيام بها لتحقيق الأهداف المرجوة على كل محور. ولا ينسى الرجل وهو يتحدث عن تلك الإستراتيجية الطموحة أن يبين الحالة الراهنة للناتج مِن محاصيل الحبوب فى مصر. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لك أن تعرف أن مقدار العجز فى إنتاج محاصيل الحبوب بين الناتج المحلى وجملة ما يلزم للإستهلاك قد تضاعف مِن 6,5 مليون طن عام 1981 إلى 12 مليون طن عام 2008. فإلى أين نحن ذاهبون؟!
ورغم إنعقاد المؤتمر الإقتصادى الذى نتناوله بالتحليل قبل شهور مِن مأساة سد النهضة الإثيوبى، إلا أن "الدينامو الإقتصادى" الدكتور أحمد السيد النجار كان قد قدم طرحاً شديد الأهمية وبالغ التميز كعادته متناولاً الإستراتيجيات المائيه والزراعية. يقدم الرجل فى مستهل ورقته بالمؤتمر نظرة عميقة عن الوضع المائي الحالى والاستراتيجية الملائمة لمعالجته. تحتوى تلك النظرة على عرض تاريخى لإتفاقيات المياه بين مصر والدول الأخرى، وكذلك الأزمات التى واجهتها مصر فى هذا الملف وآدائنا الركيك حيالها.
وينتقل دكتور النجار بعد ذلك إلى أزمة المياه الراهنة والآليات الداخلية لمواجهتها. وبعرض مُبسط للأرقام والإحصائيات، يخلص لنتيجة تؤكد بأن مِصر فى وضعها الراهن – وقبل مأساة السد الأثيوبى – تعانى مِن ندرة تصل إلى حدود الفقر المائى وفقاً لتصنيف المتخصصة السويدية في مجال المياه "مالن فلكنمارك". وعن كيفية مواجهة هذه الأزمة، يحدد الباحث مبادىء ثلاثة: ترشيد إستهلاك المياه من خلال تقليل الفواقد الضخمة في النقل والتسرب وتغيير أنماط الرى، وتجريم تلويث مياه النيل وفروعه والبحيرات العذبة بمياه الصرف الصناعي المدمرة للأرض الزراعية ولصحة الإنسان والحيوان وفرض عقوبات جنائية رادعة لمنع هذا التلويث، وأخيراً، تغيير التركيب المحصولي بصورة متوافقة مع الموارد المائية المتاحة ورفع كفاءة استخدامها، مثل إحلال زراعة البنجر السكري محل جزء من زراعات القصب.
المفاجأة هنا أن تجد عنواناً فرعياً فى الدراسة إسمه: "السدود الإثيوبية والموقف الملائم منها"!! لكن أحداً لم يعير ذلك إهتماماً! وبعد العرض التاريخى المُعتاد فى إسلوب دكتور النجار، يقدم الرجل "روشتة" للتعامل مع الأزمة وتتضمن بنود ثلاثة: التفاوض لتنظيم عملية ملء الخزان بصورة تقلل الأضرار على مصر والسودان خلال فترة الملء والتعاون مع إثيوبيا في مشروعاتها المائية كبادرة حسن نية ولضمان المتابعة ولوضع قيود مادية ومعنوية على إقامة أي مشروعات غير مقبولة مصرياً والتعاون مع إثيوبيا كذلك لتطوير الإيرادات المائية في منطقة منابع نهري جوبا وشبيلي، وحتى في حوض نهر السوباط لإنقاذ ما يتبدد من مياهه في مستنقعات مشار بحيث تحصل إثيوبيا على حصة منها وتتوجه باهتماماتها المائية والزراعية بعيداً عن النيل الأزرق.
ثم تتطرق الدراسة بعد ذلك للمشروعات الممكنة لتطوير الإيرادات المائية للنيل ثم الإستراتيجية الزراعية الملائمة لمصر. ويناقش الباحث كذلك البناء على الأراضي الزراعية مقترحاً حلولاً أربعة لمواجهته عن طريق إنشاء مساكن شعبية ومتوسطة المستوى بارتفاعات عالية نسبياً وعدد أدوار أكثر من المعتاد في الوادي والدلتا وتهيئة البنية الأساسية وبالذات محطات المياه للتوافق مع هذه الارتفاعات، وذلك لتقليل التوسع الأفقي وتحجيم الاعتداء على الأرض الزراعية وعمل إمتدادات تنموية صناعية وزراعية وخدمية وعمرانية في المناطق الصحراوية المتاخمة لمحافظات وادي النيل في مصر الوسطى والعليا، ومد العمران في المحافظات المتاخمة للصحراء في الوجه البحري لجذب الكتل السكانية من الأجيال الجديدة في تلك المحافظات إلى تلك المناطق الصحراوية الجديدة وفرض غرامات رادعة على من قاموا بالبناء على الأراضي الزراعية بالمخالفة للقانون بغرض السكن الشخصي والأسري وجذب أبناء المحافظات الريفية غير المتاخمة للصحراء مثل الغربية وكفر الشيخ ودمياط والدقهلية، للعمل في مناطق التنمية الزراعية والعمرانية الجديدة التي يتم إنشائها في الصحراء بكل ما تتضمنه من مشروعات صناعية وزراعية وخدمية.
ومِسك الختام فى الحديث عن الزراعة بالمؤتمر، برنامج لتطوير القطاع الزراعى وتنمية الريف أعده الأستاذ الدكتور زكريا الحداد. يقوم هذا البرنامج على عِدة أهداف تتضمن إنتاج غذاء وكساء كافٍ وصحى وآمن ورفع دخل ومستوى الفلاح المصرى والعاملين فى مجال الزراعة وتحويل الدلتا والوادى إلى محمية طبيعية زراعية وتوفير 9 مليار متر مكعب مِن المياه بصورة مباشرة وذلك للتوسع الأفقى فى الأراضى الصحراوية. الجيد فى الأمر، أن كل هدف مِن هذه الأهداف تندرج تحته سياسات وخطوات إجرائية لتنفيذه. الأمر الذى يجعل المسألة مجرد مسألة إرادة تنفيذ فحسب.
أسأل الله أن تجد هذه الدراسات أذن تصغى وعقل يعى وإرادة تنفذ ... (يتبع)